كصخرة جاثمة في مجرى ماءٍ عذبٍ، تتخيل فتاةٌ جاوزت من عمرها الأربعين، حالة "العنوسة" التي تعيشها. وحيدةً في غرفة بيت والديها، تجري الحياة أمامها دون انتظار. قريناتها متزوجاتٌ وسيداتٌ وأمهاتٌ، ولهذا تغمرها اللهفة حيناً لتكون أمّاً، وحيناً تصيبها الغيرة والحسرة على حالها.
أطلقَ عليها مجتمعها الصغير لقب "عانس"، وخافت نساء الحي منها على أزواجهن. ورغم خوفها من عدم الزواج، ما زال باعتقادها أنَّ مسألة اختيار شريك الحياة، ليست عبثية، بل تحتاج الكثير من الصبر والتأني. ولربما كانت مسألة "العنوسة" بالنسبة لها متعلقة بظروفٍ شخصية أو مهنية تمنعها من الزواج أو تؤخره، أو لرغبةٍ بعدم الزواج!
فهل يجوز وصفها ونعتها "بالعانس"؛ لأنَّ هواها حرة القرار والاختيار أو لأنَّها مشيئة الأقدار؟
يُطلق عادةً، لفظ "العنوسة" على النساء والرجال الذين تأخروا في الإقدام على الزواج أو الذين لم يتزوجوا أبداً. وقد ارتبط لفظ "العانس" بالنساء أكثر من الرجال، لاعتباراتٍ اجتماعية. والعنوسة في اللغة العربية، هي الصَّخرة في الماء التي تسبب الركود، ويقال: "عنس الرجل"، أي كبر ولم يتزوج. ويطلق على الرجل "عانس" إذا شبَّ وأدرك سنَّ الزواج ولم يتزوج.
وعنست المرأة، فهي عانس، إذا كبرت وعجزت في بيت أبويها.¹ هذا وورد مصطلح "عانس" في الشعر العربي القديم، وكان يُقصد به الرجال على وجه الخصوص. إذ قال الشاعر "أبو قيس بن رفاعة": "منا الذي هو ما إن طر شاربه والعانسون ومنا المرد والشيب".¹ ويشير مصطلح "Spinster" "العانس" في اللغة الإنجليزية، إلى الفتيات اللواتي لم يتزوجن أو تأخرن في الزواج، ممن كُنّ يمتهنّ غزل الصوف.
ويعود استخدام هذا المصطلح إلى ماقبل الثورة الصناعية. أما قاموس "Oxford American Dictionary" فيضع كلمة "Spinster" في خانة الكلمات "المهينة". أي التي تمتلك دلالات قوية، ولا يمكن الأخذ بها بمعنى محايد.²
يبقى السؤال بدون إجابةٍ منطقيةٍ ومرضيةٍ، لمن يؤمن بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة. حتى ولو كان الأمر متعلقاً، بإطلاق الصفات على الظواهر "الجندرية". فإذا كانت طبيعة بعض المجتمعات، وخلفياتها وموروثاتها الدينية والثقافية والاجتماعية، تفرض أحكاماً تمييزية على المرأة أكثر من الرجل، فهل يجوز الاستسلام لها؟
في الغالب، يتم لوم المرأة على عنوستها وتعدُّ فاشلةً في تسويق ذاتها، أو ربما أنَّها افتقدت للصِّفات التي تجعلها مرغوبةً للزَّواج. جميعها معانٍ مُتضمنة غير دقيقة ومغلوطة يخطئها الواقع المشاهَد. كما أنَّها تنطوي على مفاهيم اجتماعية وثقافية خاطئة تعتبر المرأة مجرد سلعة تسويقيَّة. في حين لا يتم النظر إلى الرجل الذي تقدم في السن من غير زواج بنفس النَّظرة. وهو ما يتعارض مع النظرة الشمولية للمرأة بأن تُعدّ إنسانة مكتملة بذاتها.³
لا شكَّ أنَّ أسبابَ تفاقم ظاهرة "العنوسة" في المجتمعات العربية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصادية والسياسية في هذه البلدان. فعلى سبيل المثال: "إنَّ نسبة العنوسة في سوريا تتصاعد لتقترب من 70%، بحسب آخر بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية. والأسباب متعدِّدة، في مقدّمتها الحرب، والهجرة، والفقر، وعزوف الشَّباب عن الزواج في عموم المناطق السورية."⁴
ووفقاً لاحصائية الوزارة، فإنّ نحو 3 مليون فتاة سورية عازبة تجاوزن سنّ الثلاثين عاماً. ونسبة العنوسة في سوريا تقترب من 70%، وفق المعايير الاجتماعية المحلية.⁴ هذا وتختلف أسباب تفاقم ظاهرة " العنوسة" بالنسبة لباقي البلدان العربية. وذلك تبعاً لعوامل اقتصادية واجتماعية بحتة، كغلاء المهور، والبطالة، وتدخل أهل الفتاة في تقرير مصيرها.
فضلاً عن تمكن العديد من النساء في العالم العربي من تحقيق الاستقلالية المادية، واقتناعهن بفشل مؤسسة الزواج. وعزوف البعض من الرجال والنساء عن الزواج، لاعتباراتٍ شخصية، تتمثل في استساغة بعضهم لقبول فكرة العلاقة "خارج إطار الزواج".
رسّخ استخدام لفظ "العنوسة"، في وصفه لحالة تأخر المرأة في الإقدام على الزواج، الظلم الواقع عليها من قبل المجتمع. وبالنظر إلى هذا الوصف التمييزي، يبدو جلياً واقع التطرف والمغالاة والمعاداة ضدها.
كما أنَّ مصطلح "العنوسة" نجح في خلق وإثارة جدل كبير عند الأوساط المدنية، من منظمات ومؤسسات وأفراد مدافعين عن حقوق المرأة. وأيضاً عند التيارات الرجعية التي تريد المرأة بالصورة التي كونتها الموروثات المنبثقة من رحم أفكار ومعتقدات، لا تناسب مكانة المرأة في العصر الحديث.
بين "ظل راجل، ولا ظل حيطة" و"تزوجنا لننستر" نجد في بعض الأمثال الشعبية العربية، تعبيراً صادقاً عن الخوف المتربص في نفس الفتاة من شبح العنوسة أو الزواج. ففي المثل القائل: "ظل راجل، ولا ظل حيطة"، وصف للحالة المريبة التي اعترت بعض الفتيات المرتابات من فكرة عدم زواجهن أو ارتباطهن برجل! أمَّا في المثل القائل: "تزوجنا لننستر، اسقالله ع أيام الفضيحة"، صورة واضحة عن فشل مشروع زواج، كان يُعقد عليه الأمل!
وبين مثلٍ قائل، وواقعٍ حالي مغاير لما كان عليه حال المرأة في زمن اختلاق هذه الأمثال وتأليفها، لا ضير من الاعتراف بأنَّ ظاهرة "العنوسة" -بأسبابها وإشكاليَّاتها- ما تزال تؤرق بعض المجتمعات. لكنَّ علاج "العنوسة" ممكن، عبر زوال المسببات، عبر وسائل مختلفة، أهمها تمكين المرأة وإعلاء شأنها، وتغيير الصورة النمطية عنها.
اقرأ أيضاً:
المصادر
[1] Wikipedia
[2] Wikipedia
[3] Aljazeera
[4] Alaraby