سيدة سوريّة ألمانيّة، كاتبة ومحفزة. بعدما وصلتُ إلى أوروبا سنة 2012 مع زوجي وأولادي، فهمتُ مع الوقت الفرقَ بين أنْ أكون أنثى وسيدة مجتمع، وبين أن أكون سيدة قراري وحياتي في عالم الأرقام والاختيارات. أحببتُ جداً الدمج بين حرارة الشرق وشغفه، وبين انضباط الغرب وترتيبه. لذلك أجدُ في كينونتي الجديدة توازن وثقة وقدرة على التخطيط الصبور المتجدّد.
منذ عشرة سنوت تقريباً بدأتُ بكتابة مقالات على السوشال ميديا، جمعتها فيما بعد في كتابين، تمّ نشر أحدهما بثلاث لغات. ولكنّ الكتابة لم تكن كافية في زمن كوفيد-19، إذ كان الناس في عزلتهم بحاجة إلى صوت وصورة. فملامحُ الوجه ونبرةُ الصوت تعمل على إيصال الفكرة بانطباعات أشدّ قوة وتأثيراً. شجعتني عائلتي -وخاصّة ابنتي- بأنْ أبدأ بإعداد مقاطع فيديو تحفيزيّة.
البداية لم تكن سهلةً لشخصٍ اعتادَ الكتابة بصمت. ولكنّي وجدتُ في ذلك التغيير حضوراً مختلفاً ورسالةّ جديدةً. بعدها، بدأتُ ألاحظُ خلال لقاءاتي ومحاضراتي مع العائلات في أوروبا أنّ الحوار غالباً ما يكون غائباً بين الأجيال لأسبابٍ عديدة. فأرادتْ ابنتي أن ننقل تجربتنا في الحوار بين الأجيال من خلال بودكاست، وما زلنا في البدايات، إلّا أنّها تجربة أكثر من رائعة. كما أعتبرها توثيق زمن فكريّ مختلف مع ابنتي.
من هي الأمّ الناجحة وبأيّ مقاييس؟ هل هو مقدار الإنجازات خارج المنزل أم داخله؟ هل يتمّ تقييمه حسب مستوى الدخل أو المكانة الاجتماعية؟ تساؤلات كثيرة!
ولكن بالنسبة لي، الأمّ الناجحة هي التي وجدتْ الطمأنينة والفرح، واستطاعتْ أن تنقلهما إلى عائلتها. ولا يمكن أن تصل الأمّ الى تلك الحالة ما لم تحقّق ذاتها، عندها فقط تستطيع أن تدعم كلّ فردٍ من أفراد عائلتها ليحقّق ذاته وفرحه. إذ أنّها لن تنتظر من أيّ فرد فيهم أن يحقّق ما لم تستطع هي تحقيقه! كما أنّها ستفرح بفرادتهم وتشجعهم ليكونوا كما يريدون.
بالنسبة لابنتي، أنا أرسل لها رسالة ثابتة دوماً "ليكن حضوركِ قوياً فلا يُستطاع الاستغناء عنكِ". إذ لا أريدها أن تبدّد طاقاتها في السعي نحوَ المساواة بل أن تكتشف نقاطَ القوّة التي تملكها لإثبات حضورها وجعله فعّالاً وراسخاً.
خبرتي مع مرض السرطان تشبه إلى حدّ بعيد خبرتي مع الغربة القسريّة، إذ يشعر الإنسان بأنّه قد خسر كلّ شيء في لحظة واحدة! الفرق بين الخبرتين أنّه في خبرة الهجرة، كنتُ أتمنى في السنوات الأولى أن يمرّ الوقت سريعاً من مبدأ "عمر وبيمضي". ولكن مع السرطان كنتُ متمسكةً ومتشبثة بهذا العمر للغاية، لم أعد أريده أن "يمضي سريعاً" ولا أن يمضي بهذا الشكل. أصبحَ الاستيقاظ صباحاً سبباً للاحتفال بأنّي تمكّنتّ من النجاة والعيش ليومٍ إضافيّ.
في خبرتي الحالية، أقدر عدم الاستسلام للغاية، وأدركتُ أنّ قوّة اللَّه تظهر وتشع فعلاً في ضعفنا. في زمنٍ ما وخلال رحلة العلاج فقدتُ القدرة على الكلام والمشي وكانتْ الآلام شديدة. لم أحاول أن أكون قويّة، ركزتُ على الاستمرار فقط، وجعلتُ من اللَّه قوتي.
وتعلّم أفراد عائلتي في زمن ضعفي أن يكونوا هم الأقوياء. إذ بينما نعتقد أنّ أولادنا يتعلمون ويأخذون القوة من قوتنا، إلّا أنّهم في الحقيقة يتعلمون القوة والحكمة في زمن ضعفنا. وأنا كنتُ أعيش فرح رؤيتهم ينضجون بمحبة. كما كنتُ أعيش حياة صحيّة للغاية خوفاً من المرض، ولكنّني أيقنتُ اليوم أنّ الخوف هو المرض بحدّ ذاته! الإنسان قادر بنعمة اللَّه على تحقيق أمورٍ لا يستطيع هو أن يصدّق أو يتخيّل أنّه قادر عليها.
ما زلتُ أعيش حياةً صحيّةً ولكن بدون أيّ "خوف"، بل مع شعور بالمسؤوليّة تجاه نعمة الصحة. لقد أصبح الوقت مقدّساً بالنسبة لي، ليس هناك وقتٌ للحزن والسلبيّة والانتباه للأقاويل. إنّه زمن الفرح وتحقيق ما يجب أن نحقّقه.
أولاً بدأتُ بتسمية الأمور بأسمائها، إذ برأيي هناك "صعوبات" وهناك "أشراك". الصعوبات تكون بينكِ وبين نفسكِ، مثل الكسل، التردّد، التأجيل، النسيان، التضجر، الأفكار السلبيّة، النمطية والخوف. وهي أمور يجب أنْ تواجهي نفسكِ بها وتتعاملي معها بجديّةٍ وحسمٍ وقوةٍ كلّ يومٍ وكلّ ساعةٍ في حياتكِ. العمل يحتاج لمثابرة واجتهاد بشكلٍ مستمر.
الأشراك هي كلام الناس وانتقاداتهم المُهدِّمة، الاستخفاف بعملكِ مهما كان جيداً فقط لأنّكِ سيدة، قلّة التفاعل، وما إلى هناك. والإنسان لا يجب أن يتفاعل مع الأشراك ولا أن يواجهها، بل أن يتجاهلها ويتجاوزها بحكمة. لأنّ الوقوع فيها والاستسلام لها سيأخذ منه وقتاً طويلاً حتى يخرج منها.
لذلك أتعاملُ مع الصعوبات بصبر وقوة وإيجابية، وأتجاهلُ الأشراك كي لا تستنفد طاقتي.
تعلّموا من الآخرين وخذوا من خبراتهم، لكن لا تقارنوا أنفسكم بهم. لا يوجد زمن محدّد للبداية ولا عمر ولا ظروف، ابدؤوا بالإمكانيات الصغيرة المتاحة في هذه اللحظة، فقط ابدؤوا.
ابحثوا في مواطن قوتكم وستجدون طريقكم، لا تستهينوا بما تملكون، بل انتبهوا لحقيقة أنّ كلّ ما منحكم إيّاه اللَّه فهو لغاية ما وعن قصد.
عندما تشعرون بالفرح والطمأنينة فهذا يعني أنّكم على الطريق الصحيح. الاستسلام مرفوض سواء كان الاستسلام لنجاح ما والتوقف عنده أو الاستسلام لفشل ما وعدم المحاولة من جديد. قد نفشل في عملٍ ما ولكن هذا لا يعني أنّنا فاشلون، فاللَّه لم يعطنا روح الفشل.
لا يوجد إنسان عاديّ، يوجد إنسان لم يكتشف تميّزه بعد. من الجيّد أنْ نُحِب ذواتنا ولكن الأمثل أن نُحِب ما هو الأفضل لذواتنا. علينا أن نسأل ماذا أريدُ لنفسي لتكون أفضل؟ وكيف أحقّقُ ذلك؟ ولماذا أريدُ تلك الأمور؟
هذهِ الأسئلة هي التي تُعيد توجيهي كلّما انحرفتُ عن غايتي ورؤيتي لنفسي. الشخص الذي اكتشف تميّزه لم يعد يبحث عن لفت لانتباه واستجداء التقدير والإعجاب من غيره، بل يبحث عن السلام والرضى الداخليّ. كلّنا نخضع لتأثيرات نفسيّة وحياتيّة تجعلنا نغيّر آراءنا بحسبها، لذلك من الخطأ أن أقيس نجاحي على أساس آراء الآخرين. بل عليّ أن أقيسه على أساس نتائج الفعل نفسه.
كلّ شيء يبدأ من الداخل، فالإنسان تحرّكه أفكاره. لذلك لنجعل أفكارنا إيجابيّة تحفيزيّة فضوليّة، تبحث عن حلولٍ أخرى وطرقٍ جديدة مبتكرة وفعّالة. وعندها سنفرض وجودنا بلطف وقوة. ويبقى السؤال لماذا أريد ما أريده؟ وهنا يظهر التميّز.
حتى أتكلّم عن المستقبل يجب أن أنظر إلى الماضي. في الماضي، كلّ المهن التي عملتُ بها كانت متميّزة بامتلاكها لروح الفرح والجمال.
إذ عملتُ كمصمّمة مواقع إلكترونيّة، وبعدها في وكالة استيراد فساتين أعراس و"هوتكوتور"، كلّها تعاملات فيها فرح وجمال. اليوم أعمل في مجال السوشال ميديا والكتابة، وأتمنّى أنْ أحقّقَ المزيد من الفرح وأنْ أنشرَ المزيد من الجمال. نحن نحتاج إلى الكثير من الجمال الحقيقي في كلّ الأمور. أتمنّى أن تنجح روايتي الأولى، إذ هي أوّل عمل روائيّ لي، بعد كتابة ونشر المقالات التحفيزيّة. ولطالما خبأ لي المستقبل مفاجآت كثيرة قد تبدو للوهلة الأولى كما لو أنّها نهايات، ولكن نعمة اللَّه جعلتها بدايات جميلة وقويّة. لذا أشعر أنّ المستقبل هو الذي ينتظر مني، يفاجئني وأفاجئه بدوري. ليس لديّ مخطّطات بعيدة المدى. إذ بعد التهجير والمرض والخسارات الماديّة والمعنويّة الكبيرة أصبحتُ أضع أولوية للحياة بفرح وأمل.
هدفي الأساسيّ هو الاستمرار بفرح وتجدّد وأملٍ جميل. مثل نبعٍ صغيرٍ قادمٍ من الجبال، قد تغيِّر مسيرته صخرة كبيرة أو جرف قاس ولكنّه يستمر، وأينما مرَّ يترك وراءه أثراً جميلاً منعشاً.
اقرأ أيضاً: