تطوّرت البشريّة بصورةٍ كبيرة عبر العصور، وتطوّر معها مفهوم التعايش كثيراً. فانتقل الإنسان من الاختباء في الكهف والانعزال للحفاظ على الأمن؛ إلى الحياة المشتركة في مجموعات. اتسمت هذه المجموعات بالتشابه الفكريّ والالتزام بعادات وتقاليد محدَّدة من عاداتٍ ولباس. ومنها نشأت المجتمعات البشريّة المختلفة، والألوان الفكريّة المتنوعة التي بُنيت وفقاً لتجربة كلّ مجموعة.
فبالتأكيد لن يتشابه تفكير رجل يعيش في الغابات مع رجل يعيش في الجبال الجليدية ولن تتشابه أنماط حياتهم وتقاليد اللباس والطعام والتواصل.
كثيراً ما كانت تحصل صدامات بين المجتمعات البشريّة عندما تلتقي وكان تحاول إحداها فرض سيطرتها على الأخرى، إلى أن تطور مفهوم الإنسانيّة، وظهر لنا مفهوم التعايش بين المجتمعات البشريّة.
وعليه لم يكن التعايش يوماً ترفاً فكريَّاً تسلكه المجتمعات البشريّة المختلفة دينيّاً ومذهبيّاً وعرقيّاً وسياسيّاً على كوكب الأرض. بل كان وسيبقى دوماً ركيزة أساسيّة في بناء التفاهم والالتقاء بين المجتمعات البشريّة على الرغم من اختلافها، وذلك لتطور البشريّة والحفاظ عليها.
وفي هذا المقال سنتطرق إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية:ما مفهوم التعايش؟، وما أهميّة التعايش؟، وما أنواعه وأشكاله؟، وكيف أثبتت الحروب الأهليّة أنّ التعايش هو سبيل النجاة منها؟.
يتفرّد كلّ إنسان أو مجتمع بشريّ بخصائص وصفات تميّزه وتجعله مختلفاً عن مجتمعه، الأمر الذي يخلق تنوعاً بين الأفراد في مجتمعاتهم وأيضاً بالنسبة للمجتمعات فيما بينها. وهي حالة طبيعيّة وصحيّة؛ فمن غير الطبيعي أن تتماهى المكونات البشريّة بلونٍ واحدٍ بالفكر أو الانتماء.
ولكي تكون هذه الاختلافات سليمةً، كان لا بد من إدارتها عبر مفهوم التعايش.
ويُحدد معنى التعايش لُغةً على أنّه: "العيش على المحبة والألفة. أو تعايش الأشخاص إذا تواجدوا في نفس المكان والزمان. والتعايش أيضاً هو مجتمعٌ تتعدَّد طوائفه، ويعيشون فيما بينهم بانسجامٍ ووئامٍ على اختلافات الأديان أو الأعراق أو اللُّغات. التعايش السلمي يعني بيئة يسود فيها التفاهم بين فئات المجتمع المختلفة دون اللّجوء إلى استخدام القوّة.¹
يأتي التعايش على وزن (تفاعل) ما يدل على وجود العلاقة المتبادلة بين الأطراف المتعايشة.¹
أمّا معنى التعايش اصطلاحاً، فهو: "اجتماع مجموعة من الناس في مكان واحد، تربطهم فيه وسائل العيش من الطعام، والشراب، وأساسيّات الحياة. بغض النظر عن الدين أو الانتماءات الأخرى، فيعرف كلٌّ منهم حقوقه وواجباته دون اندماجٍ أو انصهارٍ تام."¹
وعليه فإنّ التعايش يفترض من كلّ إنسان احترام اختلافات الآخرين -أفراداً وجماعات- حتى لو تعارضت مع مبادئه وفِكره مباشرةً.
ينطلق التعويل على مفهوم التعايش بوصفه ضرورةٍ لبناء المجتمعات الموصوفة بالتعدديّة العرقيّة والدينيّة والمذهبيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وذلك لأهميّته في إرساء دعائم الاستقرار والأمن وتعزيز المصالح المشتركة بين المكونات.
فلا أكثريّة تغلبُ أقليّة، بل تعايشٌ يتضمن كلّ أنواع التعاون والاحترام المتبادل. وعلى مبدأ لا غالب ولا مغلوب في الوطن الذي يعدّ ملكاً للجميع. إذ يحرص الأفراد المختلفون عن بعضهم البعض، على تغليب المصلحة العليا المشتركة وتثبيت أساسات أمنهم الاجتماعيّ بالعيش المشترك لضمان مستقبلٍ أفضل.
كما أنّ التعايش يعطي المجتمعات أنواعاً جديدةً من الفِكر نتيجة تمازج الثقافات، ما يطوّر البشريّة، ويُنتِج مجتمعات جديدة.
يوجد العديد من أنواع التعايش التي يمكن تصنيفها على الشكل الآتي:
أولاً: التعايش الدينيّ؛ ومن مظاهره:
ثانياً: التعايش العرقيّ (الاجتماعيّ)؛ من مظاهره:
ثالثاً: التعايش الثقافيّ؛ من مظاهره:
أمّا فيما يتعلّق بأشكال التعايش فنذكر منها:
تحدث الحروب الأهليّة عادةً جرّاء عوامل خارجيّة وداخليّة، تؤدي دوراً تخريبيّاً وتحريضيّاً في تأليب المجموعات السكانيّة في بلدٍ ما على بعضها البعض.
فتغيب ثقافة التعايش بين المكونات البشريّة في ذلك البلد، وتغلُب النعرات الطائفيّة والمذهبيّة وعدم قبول الآخر على التفاهم والتعايش بسلام. والنتيجة تكون كارثيّة على الجميع لأنّها تدمّر جيلاً كاملاً، وتعزّز مفهوم العنف وفرض السيطرة بدلاً من الحوار لبناء المجتمع.
شهد التاريخ القديم والحديث أمثلةً مؤلمةً عن الحروب الأهليّة ومنها الحرب الأهليّة في "رواندا". والتي استطاعت الخروج منها عبر تغليب مفهوم التعايش بين المجموعات العرقيّة المتقاتلة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
لا تمتلك "رواندا" حقولاً نفطيّةً عملاقةً، ولا مناجماً ضخمةً للمعادن النفيسة. لكنّها عانت صراعٍ قبليّ، راح ضحيته عشرات الآلاف من الأشخاص، وولّد العداوات بين أبناء الشعب.
ومع كلّ ذلك، استطاعت الدولة الصغيرة خلال العشرين عاماً الأخيرة تحقيق إنجازات اقتصاديّة كبيرة. بُنيت على أساس رؤية حكوميّة للخروج من شبح تداعيات الحرب الأهليّة، وخلق مناخ التعايش وتحقيق التنمية والرفاهيّة لأبناء الشعب.²
أخيراً، لم نرَ أُسرةً ناجحةً إلّا وكان الحوار والتفاهم أساس التعامل بين أفرادها. فحتّى داخل الأُسرة نفسها هناك اختلافات قد تحدث بين الزوجين والأولاد، لكن احترام الاختلاف يقوي الأُسرة ككلّ ويعمل على بناء شخصيات أفرادها. كما يساعد كلٌّ منهم على إظهار شخصيّته المختلفة وتطويرها ودعم عائلته. فما بالك بمجتمعٍ قائم على هذه المعادلة، علينا أن نبدأ باللّبنة الأولى في المجتمع حتّى نطوّره ونرقي مفهوم التّعايش فيها.
اقرأ أيضاً:
المصادر